مراحل عقيدة الجهمية
لكي نعرف حقيقة الأخطاء الخطيرة التي وقع فيها يوسف استس وبثَّتْها قناة الهدى وغيرها، ولكي لا نتساهل في ما لا يجوز التساهل فيه من أصول الدين، فلا بد لنا أن نعرف شيئًا عن سيرة فرقة الجهمية وتطور انحراف معتقدهم في القرآن.
المرحلة الأولى
مبدؤهم قول المبتدع الضال الجهم بن صفوان أن القرآن مخلوق، وزعم أنه كان ينزِّه اللهَ بذلك عن صفةٍ لا تليق به، وهي الكلام. فأعرضَ هو ومن وافقه عن النصوص الواضحة وحكَّموا عقولهم الفاسدة، وقالوا: لو تكلَّم الربُّ لصار مثل المخلوقين الناطقين، فنزَّهوه عن الكلام ونفوه عنه. وقد قام أهل السنة وحذَّر منهم ووكفَّرهم بالآيات البينات من كتاب الله، حيث وصف الله تعالى نفسه بالكلام، كقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ﴾ [التوبة : 6].
قال الإمام الحسن بن علي البربهاري (ت329) _ رحمه الله تعالى _ : “إِنَّمَا جَاءَ هَلَاكُ الجَهْمِيَّةِ أَنَّهُمْ فَكَّرُواْ فِي الرَّبِّ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ، فَأَدْخَلُواْ لِمَ وَكَيْفَ، وَتَرَكُواْ الأَثَرَ، وَوَضَعُواْ القِيَاسَ، وَقَاسُوا الدِّينَ عَلَى رَأْيِهِمْ، فَجَاؤُواْ بِالكُفْرِ عَيَانًا لَا يَخْفَى أَنَّهُ كُفْرٌ، وَأَكْفَرُواْ الخَلْقَ، وَاضْطَرَّهُمُ الأَمْرُ حَتَّى قَالُواْ بِالتَّعْطِيلِ.” ([1])
المرحلة الثانية : الواقفة
فبعد أن قمعهم أهل السنة وكفَّروهم وكان موقف المسلم منهم واضحًا، تخطَّطوا ومكروا على المسلمين، واختفوا بقولهم: “لا ندري القرآن مخلوق أو غير مخلوق”، وأظهروا الورع وأبطنوا الردة، فسمَّاهم أئمة السنة في هذه المرحلة: الواقفة، وفرَّقوا بينهم وبين الجهال الذين لا يحسنون الكلام، وكفَّروا الواقفة وألحقوهم بالجهمية الأولى، وقال بعض الأئمة: هم أخطر من الجهمية الأولى.([2])
المرحلة الثالثة : اللفظية
ثم بعدما كشفهم أهل السنة وكفَّروهم ولم يرضوا منهم توقفهم الخادع، أثبتوا أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لكن بالمعنى، ولا بالألفاظ، فقالوا: إن القرآن في اللوح المحفوظ، والذي في المصاحف وعلى ألسن الناس وفي صدورهم ذلك عبارة عن القرآن وحكايته. وعليه فأشهروا القول: “لفظي بالقرآن مخلوق.” فسمَّاهم العلماء باللفظية، وكفَّروهم، واستدلُّوا على كفرهم بصريح كتاب الله: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ﴾ [التوبة : 6]، قالوا: لم يقل: “حتى يسمع كلامك وأنت تروي معاني القرآن، بل قال: ﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ﴾.”
فكفَّرهم أئمة المسلمين، وألحقوهم بالجهمية الأولين، وقال بعض الأئمة: هم أكفر من الجهمية وأشد فتنة على المؤمنين.([3])
المرحلة الرابعة : موسى بن عقبة وأتباعه
ثم بعد نشر ردود أهل السنة على طوائف الجهمية الثلاث، وإظهار أمرهم، أثبت بعضهم _ وهم موسى بن عقبة وأتباعه _ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما في المصاحف كلام الله، لكنهم اخترعوا شبهة جديدة فقالوا: ما حُفظ في الصدور ليس بقرآن! قالوا: “من زعم أن القرآن في صدره فقد زعم أن في صدره من الإلهية شيئًا!”
فجاء أبو طالب أحمد بن حميد إلى الإمام أحمد بخبرهم مُعْلِنًا: “قد جاءت جهمية رابعة!”
فقال الإمام أحمد _ رحمه الله _ : “هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ! قَالَ النَّبِيُّ _ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ _ (( يُنْزَعُ القُرآنُ مِنْ صُدُورِكُمْ ))، وَفِي صُدُورِنَا وَأَبْنَائِنَا، هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ!” وأمر الناس أن يهجروهم ومن جالسهم على علم بما هم عليه.([4])
المرحلة الخامسة : الاستسية ؟
وكما تقدم في هذه الرسالة إنه قد ظهر في عصرنا من يُثبت أن القرآن كلام الله، وما يتلوه القارئ ويحفظه في صدره هو كلام الله، لكنه يقول: المكتوب في المصاحف ليس بقرآن، وإنما هو حبر وأوراق، يدل على القرآن الذي هو في اللوح المحفوظ.
وهذا من انحرافات الداعي الأمريكي المشهور يوسف استس _ هداه الله _ التي تبثُّها قناة الهدى وغيرها من القنوات والمواقع في الإنترنت، فيُشبه كلامُه كلامَ اللفظية من الجهمية القدماء، إلا أنه جاء بشبهات وأوجه لم نجدها في كلام الجهمية من قبل. فجديرًا بأصحاب هذه العقيدة الجديدة المخالفة لعقيدة المسلمين المجمع عليها أن يُلحَقوا بأجدادهم من طوائف الجهمية، وأن نرفع أصواتنا بأنه:
قد جاءت جهمية خامسة!
نسأل الله أن يهدي يوسف استس ومن معه إلى التوبة الصادقة، وإصلاح ما أفسدوه، ونسأله تعالى أن يسلِّم المسلمين من فتنته وتلاعبه بمعتقدهم.
([1]) شرح السنة له (برقم 100، ص 92-93 تحقيق الردادي)، وللمزيد من كلام أهل العلم في أوائل الجهمية انظر: الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي، والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (1/101-163)، والشريعة للآجري (1/489-525)، والإبانة الكبرى لابن بطة (3/291-318، و3/360-392)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1/241-356).
([2]) لردود أهل السنة على الواقفة انظر: الرد على الجهمية لعثمان بن سعيد الدارمي (ص193-197)، والسنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (1/179)، والشريعة للآجري (1/526-531)، والإبانة الكبرى لابن بطة (3/319-331)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1/357-384).
([3]) لردود أهل السنة على اللفظية انظر: السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (1/163-166)، والشريعة للآجري (1/532-550)، والإبانة الكبرى لابن بطة (3/332-351)، وشرح أصول الاعتقاد للالكائي (1/385-399).
([4]) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (3/353 الفاروق الحديثة).